أينما وليتَ وجهكَ في هايتي ترى مظاهر الفقر والحرمان، لكن أعداد الجثث كبيرة في كثير من الأحيان. اكتشفتُ ذلك خلال زيارتي الأولى إلى العاصمة بورت أوبرنس في أواخر الثمانينيات، حينما علقتُ في ازدحام مروري ناجم عن حاجز مروع على الطريق يتكون من جثة رجل بشكل أساسي.
كان الرجلُ قد توفي قبل أيام قليلة. وكان جيرانه، الغاضبون من عدم أخذ الجثة والمصمِّمون على إجبار السلطات على فعل ذلك، قد سحبوا الجثة إلى وسط الطريق وصنعوا منها القطعة الأساسية لحاجز على الطريق، إلى جانب أجزاء صدئة من السيارات، وعلب طلاء محطمة، وعجلات سيارات قديمة. وكتب أحدهم على إحدى اللافتات: «هكذا يموت الناس في هايتي».
حالة العوز والشلل التي ابتليت بها هايتي لعقود من الزمن تفاقمت وتطورت إلى شيء أسوأ بكثير خلال السنوات الأخيرة: دولة في حالة انهيار. فبعد مرور عامين على اغتيال الرئيس جوفينيل مويز، أضحت البلاد ومؤسساتها خاضعةً لسيطرة العصابات الإجرامية، والشرطة أقل تجهيزاً وعدةً، والحكومة عاجزة، والخدمات الاجتماعية بالكاد تعمل، وعشرات آلاف المهاجرين لجأوا إلى الولايات المتحدة.
ووسط حالة الانهيار الأمني والإنساني، ناشدت الحكومةُ المجتمعَ الدولي التدخلَ العام الماضي. وهذا الشهر، أعطى مجلس الأمن الدولي مباركتَه لبعثة أمنية تقودها كينيا، التي اقترحت إرسال ألف ضابط شرطة، ومن المتوقع أن تضم وحدات أصغر من عدة بلدان أخرى. بعثة سيتم تمويلها بشكل كبير من قبل الولايات المتحدة، التي تعهدت بتقديم 200 مليون دولار.
لكن هناك سؤالين كبيرين حول هذا التدخل الدولي الأحدث في هايتي، ومن الصعب على المرء الشعورَ بالتفاؤل بشأن أي منهما.
الأول هو ما إن كان هذا الجهد سيتمتع بالقوة البشرية وقوة والتفويض اللازمين لاستعادة بعض مظاهر الأمن.
وهذا سيكون أمراً صعباً بالنسبة لقوةٍ، ربما يقلّ تعدادها عن ألفي عسكري، وتواجه عصابات مدججة بأسلحة آلية ويقدّر عدد أعضائها بأكثر من 20 ألف فرد.
أما السؤال الثاني، وهو أساسي، فهو كيف يمكن لهذا التدخل، حتى وإن نجح في إخضاع العصابات، أن يرسي أُسسَ مستقبل مفعم بأمل حقيقي لسكان هايتي؟ إن الأمر يتطلب أولاً وقبل كل شيء استعادةَ الديمقراطية وإجراء انتخابات وتنصيب حكومة شرعية.
الجواب المختصر هو أن فرص نجاح الجهد المذكور في تحقيق هذا الهدف تكاد تكون معدومة من دون مشاركة دولية أعمق، ربما تقودها الولايات المتحدة بمساعدة من الأمم المتحدة وكندا.
وهنا قد يشعر بالغضب بعض الأشخاص الذين يكترثون كثيراً لأمر أفقر دولة في نصف الكرة الغربي، ويشيرون إلى الإخفاقات والكوارث التي تسببت فيها التدخلات الأجنبية السابقة، مشددين على أن الحل الوحيد القابل للتطبيق هو حل تقوده هايتي. وشخصياً، كنتُ أتمنى أن يكون الأمر كذلك، لكن التجارب والأدلة تشير إلى خلاف ذلك.
صحيح أن تركة التجارب السابقة في «مساعدة» الأجانب لهايتي محبِطة. وهي تبدأ بالتدخل العسكري الأميركي الذي بدأه الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في القرن الماضي ودام 19 عاماً، وتمتد إلى مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة هذا القرن، والتي تورط بعض جنودها في الاعتداء على النساء والفتيات الهايتيات وإفساد إمدادات المياه في البلاد، مما تسبب في تفشي وباء الكوليرا الفتاك.
غير أن الواقع أيضاً هو أن تدخل الأمم المتحدة الذي دام 13 عاماً، وانتهى في عام 2017، نجح إلى حد كبير في إنهاء ما شكّل فترةً من الفوضى العنيفة، والتي شملت أيضاً نشاط العصابات. وبالمقارنة مع حالة الفوضى المتفشية اليوم، يمكن القول إن بعثة الأمم المتحدة مثّلت فترةً من الاستقرار النسبي.
غير أن الاستقرار لم يدم طويلاً، ورحيل قوة الأمم المتحدة سرّع سوء الإدارة والفساد في هايتي. وحينما قُتل الرئيس مويز في عام 2021، في مؤامرة ما زال الغموض يكتنف دوافعَها ومنفذيها، كانت حالة الفوضى التي تلت ذلك متوقعة.
والواقع أن هناك إطاراً لإعادة إحياء التعددية والديمقراطية والانتخابات في هايتي ضمن عملية تعرف باسم «اتفاق مونتانا»، الذي حدّدته قبل عامين مجموعةٌ من المنظمات المدنية. هذا الإطار يدعو إلى فترة انتقالية لمدة عامين في ظل حكومة مؤقتة تمهّد الطريق لانتخابات وطنية هي الأولى منذ عام 2016.. وهي فكرة جيدة نظرياً. لكن الواقع، أي العصابات التي حلّت محل المؤسسات الحاكمة، والإصلاحات الدستورية المعطلة، والمجلس الانتخابي غير الفعال، ورئيس الوزراء غير المنتخب (أرييل هنري) الذي لا يبدي أي مؤشّر على التنازل عن السلطة.. كل ذلك يشير إلى أن معضلة هايتي لا يمكن حلها من دون دفعة كبيرة من واشنطن.
ومن المشروع التساؤل عما إن كانت واشنطن، المنشغلة بحربين في أوكرانيا والشرق الأوسط، تمتلك القدرةَ اللازمة على التعامل بجدية مع هايتي، ناهيك عن الرغبة في المساعدة على تنحية هنري عن السلطة، والتوصل لإجماع بشأن الانتخابات بين المجتمع المدني المنقسم على نفسه في هايتي، والمساعدة على إنشاء مؤسسات دائمة تستطيع حماية الأمن والديمقراطية في بلد قال عنه الرئيس بايدن ذات مرة إنه «لا يهم كثيراً في ما يتعلق بمصالحنا». بايدن أدلى بهذا التصريح المؤسف قبل حوالي 30 عاماً، قبل أيام من نشر الولايات المتحدة آلاف الجنود من أجل إعادة رئيس منتخب أطيح به في انقلاب. ومنذ ذلك الحين شاهد الأميركيون آلام ومعاناة هايتي مراراً وتكراراً وهي تتدفق على شواطئ الولايات المتحدة على شكل موجات من طالبي اللجوء.
وخلاصة القول هي أن الولايات المتحدة تستطيع الاستمرارَ في الاستسلام للأمر الواقع بشكل سلبي، وفي التأثر بتداعيات الشلل الذي تعاني منه هايتي، أو ممارسة النفوذ الذي تتمتع به ضمن جهد مركّز ومستمر. والواقع أن المهمة التي تقودها كينيا قد تنجح في خفض عدد ضحايا العنف وانعدام الأمن في هذا البلد، أما في ما يتعلق بحلٍّ على المدى الطويل، فإن الجواب يعود إلى واشنطن.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»